تبيّن أنّ البشر والقرود قادرون على التّعرّف على الثّعابين والاستجابة لها بسرعةٍ تفوق استجابتهم للأجسام الأخرى. كما أظهر بحثٌ جديد أنّ القشور الّتي تُغطّي جلد الثّعابين تُشكِّل العامل الأساسيّ الّذي يلفت انتباه القرود ويدفعها لاتّخاذ ردِّ فعل سريع.
ماذا يعرف الأطفال عند ولادتهم؟
على عكس الاعتقاد السائد في الماضي، لا يولد الأطفال بعقول خالية تمامًا من المعرفة -صفحة بيضاء- حتى تُشكّل التّجارب الّتي يمرّون بها والدّروس الّتي يتعلّمونها بصمات واضحة في أدمغتهم. بل نولَد جميعًا مع ميول فطريّة مُعيّنة، مُتأصِّلة فينا قبل فتح أعيننا لأوّل مرّة. تدفعنا هذه الميول للانجذاب إلى أشياء مُحدّدة والابتعاد عن أخرى، وتؤثِّر بشكلٍ مباشر على اهتماماتنا. بعض هذه الميول تُميِّز أفرادًا محدّدين، بينما البعض الآخر مشتركةٌ بين جميع البشر، أو حتّى بين كائنات أخرى. ومن الأمثلة البارزة على هذا الميْل الفطريّ: النّفور من الثّعابين، أو على الأقلّ، الانتباه الفوريّ والاهتمام الخاصّ بوجودها.
في مرحلة البلوغ، تختلف ردود أفعال الأشخاص تجاه الثّعابين بشكلٍ ملحوظ. بينما يهوى البعض تربية هذه الزّواحف عديمة الأرجل في منازلهم ويجدون متعةً في مراقبتها، بل وحتّى الإمساك بها؛ يشعر آخرون بذُعرٍ شديد ويفرّون بمجرد رؤية طرف ذيل ثعبان. مع ذلك، أظهرت الأبحاث أنّ لدينا جميعًا ميلًا مشتركًا في سرعة ملاحظة الثّعابين والاستجابة لها بفاعليّة. إذ يستطيع البشر، وحتّى الأطفال الصغار الّذين لم يسبق لهم رؤية ثعبان من قبل، تمييز الثّعابين "المخبّأة" وسط صور لأشياء غير مُهدّدة، مثل الفواكه أو الزّهور، وبسرعة تفوق قدرتهم على التّعرّف على الحيوانات الأخرى.
كانت القردة القديمة قادرة على اكتشاف ثعبان مختبئ في العشب بسهولة أكبر، لذلك كانت لديها فرصة أكبر للبقاء على قيد الحياة والتّكاثر وبالتّالي إنتاج ذُرّيّة. ثعبان في العشب | Look At You Photography, Shutterstock
يَفترِض الباحثون أنّ الميْل للتّعرّف بسرعة على الثّعابين تَطَوَّر فينا أثناء عمليّة التّطوُّر حتّى نتمكّن من الدّفاع عن أنفسنا بشكلٍ صحيحٍ ضدّ هذه الزّواحف. ومن الواضح أنّ هذا الميل موجودٌ لدى القرود إضافةً للبشر، كما أنّهم قادرون أيضًا على التّعرّف بسرعة على صور الثّعابين، حتّى لو لم يروا ثُعبانًا من قبل.
إضافة إلى ذلك، كشفت قياسات نشاط الخلايا العصبيَة أنّ أدمغة القردة استجابت بقوّة أكبر لصُوَر الثّعابين مقارنةً بالصّور الأخرى. من المحتمل أنّ هذه الميزة قد تطوّرت بالفعل لدى السّلف المشترك لنا وللقرود: فالقرد القديم الّذي كان قادرًا على التّعرّف بسهولةٍ على الثّعبان المختبئ في العشب، كان لديه فرصة أكبر للبقاء على قيد الحياة وإنتاج ذُرّيّة. يشير ذلك إلى احتمال وجود استعدادٍ فطريّ لدى القرود للتّعرّف على الثّعابين كتهديد، في حين يصعُب إقناعها بأنّ الزّهور تُمثّل مصدرًا للخطر.
القردة الّتي نشأت في الأسر لا تُظهِر خوفًا فِطريًّا من الثّعابين، لكن من السّهل جِدًّا تعليمها الخوف: عندما عُرض عليهم مقطع فيديو لقرد يشعر بالخوف من ثعبان، بدأوا بالرّدِّ بنفس الطّريقة. وعندما قام الباحثون بتعديل الفيديو ليبدو كما لو أنّ القرد يخاف من زهرةٍ أو أرنب، لم تظهر القردة الّتي شاهدته خوفًا من الزّهور أو الأرانب. من المحتمل أنّ لديهم ميلًا فطريًّا يساعدهم على تعلّم أنّ الثّعبان يُشكِّل تهديدًا بسرعة، بينما يصعب إقناعهم بأنّ الزُّهور تُمثِّل خطرًا.
تمّ عرض صور الثّعابين والسّلمندر على القرود على شاشة تعمل باللّمس. قرود المكاك اليابانيّة في الثّلج | Sergey Uryadnikov, Shutterstock
سلمندر بجلد ثعبان
يولَد البشر والقرود أيضًا مع قدرة على التّعرّف على الثّعبان بسرعة. ولكن، ما هي ميّزات الثّعبان الّتي نتعرّف عليها؟ الجسم الطويل بلا أرجل؟ الرّأس الثُّلاثيّ؟ الحراشف؟
في دراسة حديثة، سلَّط الباحث اليابانيّ نوبويوكي كاواي (Kawai) الضّوء على الاحتمال الأخير، وبيّن أنّ وجود الحراشف وحدها كافية لتمكين القرود من التّعرّف على الحيوان بسرعة، حتّى وإن كان في الواقع سلمندر (Salamanders) أُضيفت إليه حراشف باستخدام الفوتوشوب.
استخدم كاواي تسع صور للثّعابين وتسع صور للسّلمندر، كلّها باللّونيْن الأبيض والأسود، كي لا تكون الألوان المختلفة للثّعابين إشارةً للقرود. قام بتعديل صور السّلمندر، وأنشأ سلسلة أخرى من الصّور الّتي يبدو فيها جلد هذه البرمائيّات أيضًا مُغطّى بقشور مثل جلد الثّعبان.
تمّ عرض الصُّور على ثلاثة قرود المكاك اليابانيّة (Macaca fuscata)، على شاشة تعمل باللّمس. وفي كلّ مرّة عُرض عليهم تسع صور، ثمانٍ منها كانوا من نفس الفئة- على سبيل المثال، سلمندر بدون حراشف وواحدة من فئةٍ مختلفة، على سبيل المثال: ثعبان، أو سلمندر ذو حراشف. كان على القردة التّعرّف على الصّورة المختلفة ولمسها، للحصول على مكافأة. وكما رأينا في الاختبارات السّابقة، تعرّفت القردة أسرع على الثّعبان المختبئ، مقارنة بالسّلمندر "العاديّ". ولكن عندما كان السّلمندر مُغطّى بحراشف الثّعبان اكتشفوه بسرعة أيضًا، تمامًا كما لو كان ثعبانًا.
استجابت القرود بسرعة لصُوَر الثّعابين والسّلمندر ذات الحراشف. من اليمين إلى اليسار: ثعبان ذو حراشف، سلمندر ذو حراشف، سلمندر بدون حراشف | المصدر:Reiko Matsushita
ملاحظة فِطريّة للحراشف
وقال كواي في بيان صحفيّ: "لقد أظهرنا في الدّراسات السّابقة أنّ البشر والرّئيسيّات الأخرى قادرة على التّعرّف على الثّعابين بسرعة؛ ومع ذلك، فإنّ الميزة البصريّة الّتي مكّنت من التّعرّف عليها كانت غير معروفة". "لم تستجب القردة للسّلمندر بسرعة أكبر، على الرّغم من أنّها تتشابه مع الثّعابين في الجسم والذيْل الطّويل، إلى أن تمّ تعديل الصّور بحيث تمّ تغطيتها بجلد الثّعبان".
وخلص كاواي إلى أنّ حراشف الثّعبان كانت أهمّ سِمة لفتت نَظر القردة. تُغطّي القشور المُميّزة جلود معظم الثّعابين تقريبًا- رغم وجود استثناءات أيضًا. هناك بالفعل حيوانات أخرى أجسادها مُغطّاة بالحراشف، لكنّ هيكل حراشف الثّعبان وشكلها يختلف عن تلك الّتي تظهر على التّمساح أو الإغوانة (Iguanas)، لذا يمكن استخدامها كخاصيّة جيّدة لتحديد الهويّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الثّعابين مُغطّاة بحراشف من الأنف حتّى طرف الذّيل، لذا فإنّ الحيوانات الحسّاسة لمظهرها ستتعرّف على الثّعبان حتّى لو كان مجرد جزء من جسده مرئيًّا- وقد أظهرت الدّراسات أنّ القرود قادرة بالفعل على ذلك. بالطّبع، من الممكن أن تساهم خصائص أخرى أيضًا في التّمييز، ولكن يبدو أنّ الحراشف تلعب دورًا أساسيًّا. لم يكن الاهتمام الّذي أبداه القردة بالحراشف أمرًا مُكتسبًا- فقد وُلدوا، وربّما نحن أيضًا، "مبرمجين" فِطريًّا بالفعل للتّعرّف بسرعة على الحيوانات ذوات الجلد الشّبيه بالثّعبان. من السّهل وصف كيف لمثل هذا الميْل أن يحمينا، وخاصّة أسلافنا القدماء منذ عشرات الملايين من السّنين، الّذين كانت الثّعابين تُشكِّل خطرًا جسيمًا عليهم.
امتلك أولئك الّذين يستطيعون اكتشاف الثُّعبان المختبئ في العشب بسهولةٍ ميزةً كبيرة مقارنةً بأولئك الّذين يجدون صعوبةً في القيام بذلك، ما يمنحهم فرصةً أكبر للبقاء والتّكاثر. أدّى الانتقاء الطّبيعيّ على مرّ الأجيال، إلى تصميم دماغنا للتّعرّف بسرعةٍ على خصائص معيّنة، دون الحاجة إلى تعلّمها. وحتّى اليوم، رغم أنّ الثّعابين لم تَعُد تشكِّل تهديدًا رئيسيًّا لحياة البشر، فإنّها لا تزال تجذب انتباهنا أكثر من الحيوانات الأخرى. كيفيّة تفاعلنا بعد رؤيتهم تعتمد بالفعل على تجاربنا السّابقة، وما تعلّمناه واكتسبناه من الأشخاص المحيطين بنا.