من خلال الدراسات الحديثة، اكتشف باحثون أنّ عنصر المفاجأة يؤثر في إدراكنا لشدّة الطعام الحارّ، وكذلك في نشاط الدماغ المرتبط أساسًا بالشعور بالألم
هل سبق لك أن التهمت حبّة فلافل، أو تذوّقت طبقًا معيّنًا، وشعرت بأنّ فمك يشتعل؟ هذا الإحساس بالطعم الحارّ، ناجم عن أحد المكوّنات الموجودة في الطبق. سواء كنت من عشّاق النكهات الحارّة، فتغمر وجباتك بالصلصة الحارّة بسخاء، أو كنت ممّن يتجنّبونها تمامًا، فإنّ عنصر المفاجأة قد يغيّر تجربتك كليًّا.
على عكس النكهات الأساسيّة مثل الحلو والحامض، والّتي تعتمد على مستقبِلات التذوّق، فإنّ الإحساس الّذي نصِفه بأنّه "حارّ"، هو في الواقع استجابة لمستقبِلات الألم ودرجة الطعم الحارّ المنتشر على اللسان، وداخل تجويف الفم. تختلف حساسيّة الأفراد للطعم الحارّ؛ فبينما تكفي قطرة صغيرة من الصلصة الحارّة أو قليل من الفجل أو السحاوق (صلصة يمنيّة حارّة) لإشعال الإحساس بالاحتراق لدى البعض، يستطيع آخرون قضم الفلفل الحارّ وكأنّه مجرّد تفّاحة.
عندما تناول محبّو الأطعمة الحارّة صلصة بفلفل ذي تركيز منخفض من الكابسيسين، أثّرت التوقّعات في تجربتهم. فلفل حارّ بجانب التركيب الجزيئيّ للكابسيسين | Shutterstock, Danijela Maksimovic
أشخاص مختلفون، إدراك مختلف
أجرى باحثون من الولايات المتّحدة والصين دراسة على 47 مشاركًا لفحص استجابة الدماغ تجاه تركيزات متفاوتة من الصلصة الحارّة. ومن أجل تحقيق ذلك، انقسم المشاركون إلى مجموعتين: حيث ضمّت الأولى أفرادًا يفضّلون الأطعمة الحارّة، بينما شملت الثانية أشخاصًا يتجنّبونها تمامًا. وعلاوة على ذلك، ولضمان دقّة التجربة، تمّ تحضير نوعين من الصلصة، بمستويات مختلفة من المذاق الحارّ، الأوّل شديد، والآخر متوسّط. بالإضافة إلى ذلك، كان تركيز الكابسيسين– وهي المادّة الفعّالة المسؤولة عن الإحساس بالمذاق الحارّ- في الصلصة الحارّة أعلى بثلاثة أضعاف، وذلك لضمان استجابة واضحة بين العيّنتين.
ولضمان دقّة النتائج، خضع المشاركون لتجربة التذوّق أثناء مسح أدمغتهم بتقنيّة التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI)، والّتي تتيح مراقبة نشاط الدماغ في الزمن الفعليّ. تمّ تقديم الماء بين كلّ تجربة وأخرى، وذلك لتصفية الإحساس السابق، وتحديد مستوى النشاط الدماغيّ الأساسيّ. قبل كلّ تذوق، عُرِضت على المشاركين رموز غير مفهومة. بعد كلّ تجربة، طُلب منهم تقييم شدّة الطعم الحارّ ومدى استمتاعهم بالنكهة.
وعليه، سعى الباحثون لمعرفة مدى تأثير التوقّعات المسبقة حول درجة الحرارة في تجربة المشاركين ونشاط أدمغتهم. لذا، تمّ إخضاعهم لجلسة تصوير fMRI إضافيّة، حيث تذوّقوا الصلصات نفسها مجدّدًا، ولكن هذه المرّة مع رموز توضّح مستوى الحدّة، باستخدام أيقونات فلفل بألوان مختلفة.
أظهرت النتائج أنّه عندما تناول محبّو الأطعمة الحارّة صلصة ذات تركيز منخفض من الكابسيسين، أثّرت التوقّعات في تجربتهم. فقد قيّموا الصلصة بأنّ طعمها الحارّ كان أقلّ عندما رأوا رمز فلفل واحد، وهو ما يشير إلى مستوى حدّة منخفض، بينما ارتفع تقييمهم للطعم الحارّ عندما لم يكن الرمز واضحًا. أمّا بالنسبة لمجموعة الأشخاص ذوي الحساسيّة العالية للنكهات الحارّة، فلم يكن هناك ارتباط إحصائيّ يُذكر بين التوقّعات ومدى إدراكهم لشدة النكهة الحارّة.
بالإضافة إلى ذلك، أثّرت التوقّعات في مدى استمتاع المشاركين بالتجربة. فالأشخاص الّذين يتجنّبون الطعم الحارّ قيّموا استمتاعهم بأنّه أعلى عندما لم يكونوا على دراية مسبقة بحدّة الصلصة. رغم أن تقييماتهم كانت سلبيّة إجمالًا، أي إنّهم لم يستمتعوا بتناولها، إلّا أنّ غياب التوقّعات المسبقة جعل التجربة أقلّ إزعاجًا.
في مجموعة المشاركين ذوي الحساسيّة العالية للنكهات الحارّة، حفّزت التوقّعات استجابة قويّة في مناطق الدماغ المرتبطة بإحساس الألم (الرسم البيانيّ الأيمن). بينما عندما لم يكن لديهم معرفة مسبقة بحدّة النكهة الحارّة، لم يُسجَّل أيّ فرق واضح في استجابة تلك المناطق بعد تذوّق الماء أو الصلصات المختلفة | من الدراسة، Luo Y et al., PLoS Biol 2024.
اختلافات في نشاط الدماغ
راقب الباحثون نشاط الدماغ أثناء تجارب التذوّق، حيث كشفت فحوصات fMRI أنّ عشّاق الأطعمة الحارّة، عند توقّعهم للنكهة الحارّة، أظهروا نشاطًا مكثّفًا في مناطق الدماغ المسؤولة عن العواطف ومعالجة الإشارات الحسّيّة الواردة من الجسم، مثل القشرة الجزيريّة وقشرة فصّ الجبهة المسؤولة عن التنظيم العاطفيّ، إضافة إلى التلفيف الحزاميّ الأماميّ العلويّ. في المقابل، وفي المجموعة الّتي لا تفضّل الطعام الحارّ، لم يُلاحظ أيّ فرق في النشاط الدماغيّ في هذه المناطق مقارنةً بنشاط الدماغ أثناء شرب الماء، وفي الحالات الّتي كانت فيها الحدّة متوقّعة مقارنةً بتلك الّتي كانت مفاجئة. وبالتالي، فإنّ التوقّع للطعم الحارّ أثّر في التجربة والنشاط الدماغيّ معًا، ولكن فقط بشرط أن يكون الشخص الّذي يتمّ اختباره يحبّ تناول الطعام الحارّ.
إلى جانب ذلك، فحص الباحثون استجابة الدماغ للألم بقياس نشاط المناطق المرتبطة بالإحساس بالألم، ومقارنة ذلك بالحالة الطبيعيّة عند شرب الماء، سواء مع معرفة مسبقة بدرجة الحرارة أو بدونها.
أظهرت النتائج أنّه في مجموعة الأشخاص ذوي الحساسيّة العالية للنكهات الحارّة، كانت هناك استجابة قويّة في مناطق الدماغ المسؤولة عن الألم، عندما توقّعوا حدّة عالية أو متوسطة. أمّا عندما لم تكن لديهم أيّ توقّعات مسبقة، فلم يظهر فرق واضح في نشاط هذه المناطق بين تناول الصلصة الحارّة أو شرب الماء. من ناحية أخرى، لم يُظهر عشّاق الأطعمة الحارّة أيّة زيادة في نشاط مناطق الألم، حتّى عند توقّعهم مستوى معيّنًا من الحدّة.
يُعدّ استخدام التوابل الحارّة شائعًا في العديد من الثقافات والمطابخ حول العالم، ويُعتقد أنّ تطوّر تفضيلها في بعض هذه الثقافات مرتبط بفوائدها الصحيّة، مثل الحماية من العدوى البكتيريّة. كما أنّ تناول الأطعمة الحارّة قد يساعد في الحدّ من السمنة، وتقليل مخاطر الإصابة بالسكّريّ.
بناءً على هذه النتائج، تشير هذه الدراسة إلى أنّ الشعور بالنكهة الحارّة ليس مجرّد استجابة حسيّة لمُستقبِلات الألم والسخونة. من المحتمل أن تؤثّر المعرفة المسبقة بمستوى النكهة الحارّة في التجربة بالكامل- بالإحساس بالنكهة الحارّة، عندما يتهيّأ الدماغ مسبقًا للإحساس بالألم، وأيضًا في الشعور بلذّة الوجبة. لذا، إذا قمتم بسؤال النادل مسبقًا عن مدى حدّة النكهة الحارّة للوجبة، فإنّ مجرّد السؤال، قد يغيّر التجربة بالكامل!.
إذا لم تكن معتادًا على الأطعمة الحارّة، فقد يكون تأثيرها فيك شديدًا.